سورة النحل - تفسير تفسير الشعراوي

/ﻪـ 
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النحل)


        


{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(115)}
الحق سبحانه وتعالى بعد أنْ قال: {فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله حَلالاً طَيِّباً} [النحل: 114].
أراد أن يُكرِّر معنًى من المعاني سبق ذكره في البقرة والمائدة، فقال في البقرة: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمَ الخنزير وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [البقرة: 173].
وقال تعالى في سورة المائدة: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمُ الخنزير وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ..} [المائدة: 3].
وهذه الأشياء كنتم تأكلونها وهي مُحرّمة عليكم، والآن ما دُمْنَا ننقذكم، ونجعل لكم معونة إيمانية من رسول الله، فكلوا هذه الأشياء حلالاً طيباً.
ولكن، لماذا كرَّر هذا المعنى هنا؟
التكرار هنا لأمرين:
الأول: أنه سبحانه لا يريد أنْ يعطيهم صورة عامة بالحكم، بل صورة مُشخَّصة بالحالة؛ لأنهم كانوا جَوْعى يريدون ما يأكلونه، حتى وإنْ كانت الجيف، ولكن الإسلام يُحرِّم الميتة، فأوضح لهم أنكم بعد ذلك ستأكلون الحلال الطيب.
ثانياً: أن النص يختلف، ففي البقرة: {وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله..} [البقرة: 173].
وهنا: {وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ..} [النحل: 115].
وليس هنا من قبيل التفنُّن في الأسلوب، بل المعنى مختلف تماماً؛ ذلك لأن الإهلال هو رَفْع الصوت عند الذبح، فكانوا يرفعون أصواتهم عند الذبح، ولكن والعياذ بالله يقولون: باسم اللات، أو باسم العُزّى، فيُهلون بأسماء الشركاء الباطلين، ولا يذكرون اسم الله الوهاب.
فمرَّة يُهلُّون به لغير الله، ومرة يُهِلُّون لغير الله به. كيف ذلك؟
قالوا: لأن الذبْح كان على نوعين: مرة يذبحون للتقرُّب للأصنام، فيكون الأصل في الذبح أنه أُهِلَّ لغير الله به. أي: للأصنام.
ومرَّة يذبحون ليأكلوا دون تقرُّب لأحد، فالأصل فيه أنه أُهِلَّ به لغير الله.
إذن: تكرار الآية لحكمة، وسبحان مَنْ هذا كلامه.
وقوله: {فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ..} [النحل: 115].
الاضطرار: أَلاَّ تجد ما تأكله، ولا ما يقيم حياتك.
والحق سبحانه وتعالى يعطينا هنا رخصة عندما تُلجِئنا الضرورة أن نأكل من هذه الأشياء المحرَّمة بقدر ما يحفظ الحياة ويسُدُّ الجوع، فمَعنى(غَيْر بَاغٍ) غير مُتجاوزٍ للحدِّ، فلو اضطررْتَ وعندك مَيْتة وعندك طعام حلال، فلا يصحّ أن تأكل الميتة في وجود الحلال.
{وَلاَ عَادٍ} [النحل: 115].
أي: ولا مُعْتَدٍ على القدر المرخَّص به، وهو ما يمسك الحياة ويسُدُّ جوعك فقط، دون شِبَع منها.
ويقول تعالى: {فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النحل: 115].
وفي البقرة: {فلا إِثْمَ عَلَيْهِ...} [البقرة: 173].
فالمعنى واحد، ولكن هنا ذكر المغفرة والرحمة، وهناك ذكر سببهما.
وتجد الإشارة هنا إلى ما يتشدَّق به البعض من الملاحدة الذين يبحثون في القرآن عن مَغْمز، فيقولون: طالما أن الله حرَّم هذه الأشياء، فما فائدتها في الكون؟
نقول: أتظنون أن كل موجود في الكون وُجِد ليُؤكل، أليس له مهمة أخرى؟ ومن ورائه مصلحة أخرى غير الأَكْل، فإنْ حرَّم الإسلام أكْله فقد أباح الانتفاع به من وجه آخر.
فالخنزير مثلاً حَرَّم الله أكْله، ولكن خَلقه لمهمة أخرى، وجعل له دَوْراً في نظافة البيئة، حيث يلتهم القاذورات، فهو بذلك يُؤدِّي مهمة في الحياة.
وكذلك الثعابين لا نأكلها، ولها مهمة في الحياة أيضاً، وهي أنْ تُجهِّز لنا السُّم في جوفها، وبهذا السم تعالج بعض الداءات والأمراض، وغير ذلك من الأمثلة كثير.
وكذلك يجب أنْ نعلمَ أن الحق سبحانه ما حرَّم علينا هذه الأشياء إلا لحكمة، وعلى الإنسان أن يأخذ من واقع تكوينه المادي وتجاربه ما يُقرِّب له المعاني القيمية الدينية، فلو نظر إلى الآلات التي تُدار من حوله من ماكينات وسيارات وطائرات وخلافه لوجد لكل منها وقوداً، ربما لا يناسب غيرها، حتى في النوع الواحد نرى أن وقود السيارات وهو البنزين مثلاً لا يناسب الطائرات التي تستخدم نفس الوقود، ولكن بدرجة نقاء أعلى.
إذن: لكل شيء وقود مناسب، وكذلك أنت أيها الإنسان لك وقودك المناسب لك، وبه تستطيع أداء حركتك في الحياة، وأنت صَنْعة ربك سبحانه، وهو الذي يُحدِّد لك ما تأكله وما لا تأكله، ويعلم ما يُصلحك وما يضرُّك.
والشيء المحرَّم قد يكون مُحرَّماً في ذاته كالميتة لما فيها من ضرر، وقد يكون حلالاً في ذاته، ولكنه مُحرَّم بالنسبة لشخص معين، كأن يُمنَع المريض من تناول طعام ما؛ لأنه يضرُّ بصحته أو يُؤخِّر شفاءه، وهو تحريم طاريء لحين زوال سببه.
وصورة أخرى للتحريم، وهي أن يكون الشيء حلالاً في ذاته ولا ضررَ في تناوله، ومع ذلك تحرمه عقوبةً، كما تفعل في معاقبة الطفل إذا أساء فنحرمه من قطعة الحلوى مثلاً.
إذن: للتحريم أسباب كثيرة، سوف نرى أمثلة منها قريباً.
ثم يقول الحق تبارك وتعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا..}.


{وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ(116)}
معنى {تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكذب}: تُظهِره على أوضح وجوهه، فليس كلامهم كذباً فقط، بل يصفه، فمَنْ لا يعرف الكذب فليعرفه من كلام هؤلاء.
والمراد بالكذب هنا قولهم: {هذا حَلاَلٌ وهذا حَرَامٌ..} [النحل: 116].
فهذا كذب وافتراء على الله سبحانه؛ لأنه وحده صاحب التحليل والتحريم، فإياك أنْ تُحلِّل شيئاً من عند نفسك، أو تُحرِّم شيئاً حَسْب هواك؛ لأن هذا افتراءٌ على الله: {لِّتَفْتَرُواْ على الله الكذب...} [النحل: 116].
وقوله تعالى: {إِنَّ الذين يَفْتَرُونَ على الله الكذب لاَ يُفْلِحُونَ} [النحل: 116].
فإن انطلى كذبهم على بعض الناس، فأخذوا من ورائه منفعة عاجلة، فعمَّا قليل سيُفتضح أمرهم، وينكشف كذبهم، وتنقطع مصالحهم بين الخلق.
ويصف الحق سبحانه ما يأخذه هؤلاء من دنياهم بأنه: {مَتَاعٌ قَلِيلٌ..}.


{مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(117)}
أي: ما أخذتموه بكذبكم وافترائكم على الله متاعٌ قليل زائل، سيحرمكم من المتاع الكثير الباقي الذي قال الله عنه: {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ الله بَاقٍ} [النحل: 96].
ليس هذا فقط بل: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النحل: 117].
ثم يقول الحق سبحانه: {وعلى الذين هَادُواْ..}.

35 | 36 | 37 | 38 | 39 | 40 | 41 | 42